عقدة المثقف العربي- بين سلطة التنظير وواقع الإبداع المفقود
المؤلف: عبداللطيف آل الشيخ09.30.2025

إن الثقافة، في صميم الوجدان العربي، تشكل دعامة أساسية للهوية، وتتجاوز حدود البرامج التعليمية المدرسية. فهي عبارة عن نسيج متكامل من التفاعل اليومي مع المعارف الدنيوية والدينية، وتخضع للاختبار والتمحيص بالعقل والمنطق في المجال الدنيوي، بينما يتم تقييمها بالفطرة والروح في المجال الديني.
إلا أن مفهوم "المثقف" في العالم العربي قد انزلق ليصبح سلطة رمزية، يضفي عليها البعض هالة من القداسة والتعالي، فيمارس دور القاضي الذي يوزع صكوك الصواب والخطأ، على الرغم من أن معرفته في كثير من الأحيان ليست سوى ترديد لأصداء أفكار الآخرين، دون إضافة نوعية أو إبداع جدير بالذكر.
فما هي الأسباب التي أدت إلى نشوء هذه المعضلة الفكرية؟ وما هي تجلياتها وتأثيراتها المختلفة على الفرد والمجتمع؟
من الثقافة كتجربة حية...
إلى الثقافة كسلطة متصلبة...
إن الثقافة ليست مجرد مجموعة من المعلومات المتراكمة، بل هي عملية تفاعلية مستمرة مع مجريات الحياة، تنمو وتترسخ من خلال التساؤل والنقد والتجربة والاختبار.
لكن بعض المثقفين العرب قاموا بتحويلها إلى "شهادة تقدير" اجتماعية تمنحهم امتياز التعالي والترفع، فأصبحوا يصدرون الأحكام من أبراج عاجية، وكأنهم هم وحدهم حراس الحقيقة المطلقة وصائنوها.
وهذا التعالي لا ينفصل عن إشكالية تاريخية عميقة الجذور، فالمثقف العربي قد ولد وترعرع في بيئة استعمارية غذت لديه الشعور بالنقص والدونية، فحاول جاهداً تعويضها من خلال تبني خطاب دفاعي يعتمد على استنساخ الأفكار الغربية أو التمسك بالتراث دون تمحيص أو تدقيق، مما أدى إلى نشوء حالة من التناقض الصارخ بين الانفتاح الظاهري والانغلاق الفكري الباطني.
الاستيراد الفكري المفرط...
وغياب الإبداع الأصيل...
من المفارقات العجيبة لهذه المعضلة أن المثقف يدعي الأصالة والتميز، بينما ثقافته الحقيقية تختزل في نقل أفكار غريبة عن بيئته وسياقه، أو في اجترار التراث بشكل ببغائي دون نقد أو تحليل.
إنه أشبه بـ"وسيط" بين المعرفة والجمهور، لا يمتلك أي إسهام إبداعي يذكر، حتى في أبسط الابتكارات المادية الملموسة. فثقافته تظل حبيسة الإطار النظري، تقاس بعدد الكتب المترجمة والمقتبسة، لا بتأثيرها الفعلي في مجريات الواقع وتغييراته.
هذا النمط من التفكير ينتج مثقفاً استهلاكياً وسطحياً، يعيد تدوير الخطابات والأفكار السائدة دون أن يقدم رؤية جديدة مبتكرة تعالج المشكلات والتحديات التي تواجه مجتمعه بشكل فعال.
تزداد المعضلة تعقيداً وتشابكاً حين تتداخل العلوم الدينية والدنيوية، فبعض المثقفين يتعاملون مع الدين كمنظومة مغلقة وجامدة، يستخدمونها لإضفاء الشرعية على خطابهم وأفكارهم، بينما يتبنى آخرون نظريات علمانية دون مراعاة للخصوصية الثقافية والمجتمعية. وفي كلتا الحالتين، تختزل الثقافة إلى مجرد أداة للهيمنة الفكرية والسيطرة، حيث يرفع المثقف من شأن نفسه، ويقلل من قيمة أي صوت مخالف تحت شعارات براقة مثل "التقدم" أو "الحفاظ على الهوية"، دون وجود حوار حقيقي بنّاء يمتزج فيه العقل بالقلب، والمنطق بالفطرة السليمة.
إن تأثير هذه العقدة لا يقتصر على المثقف نفسه، بل يمتد ليشكل فجوة واسعة بينه وبين المجتمع الذي يفترض به أن يخدمه ويكون جزءاً لا يتجزأ منه.
فبينما يحتاج الواقع العربي إلى مثقف منخرط بفاعلية في هموم الناس وقضاياهم الحياتية، يساهم في إيجاد حلول لمشكلات التعليم والاقتصاد والفكر، نجد أن الكثيرين منهم منغمسون في سجالات ونقاشات نظرية مجردة لا تلامس الواقع المعيش. هذا التعالي يغذي النظرة الدونية للعامة، ويعمق أزمة الثقة بين الطرفين، فيتحول المثقف إلى كائن غريب ومنعزل في وطنه، بينما يبحث المجتمع عن حلوله ومعالجاته للأزمات خارج صالونات التنظير والتبرير.
من أجل كسر هذه الحلقة المفرغة، يحتاج المثقف العربي إلى مراجعة شاملة لدوره ومسؤولياته، فالثقافة الحقيقية ليست مجرد امتلاك للمعرفة والمعلومات، بل هي انفتاح دائم على التعلم والتطور، ونقد ذاتي مستمر، وإيمان راسخ بأن الحكمة يمكن أن تنبع من أبسط الناس وأكثرهم تواضعاً.
عليه أن يتحول من مجرد "ناقل" للمعرفة إلى "منتج" لها، يبتكر حلولاً للمشكلات ويشارك بفاعلية في بناء الواقع وتطويره نحو الأفضل.
كما أن تطوير النظام التعليمي ليعزز التفكير النقدي والإبداعي بدلاً من الحفظ والتلقين، وخلق مساحات للحوار والتفاعل بين التخصصات الدينية والدنيوية، يمكن أن يسهم بشكل كبير في إنضاج ثقافة أكثر تواضعاً وإنتاجية وفاعلية.
إن الثقافة العربية لن تتحرر من عقدة التعالي والغطرسة إلا بالاعتراف بأنها جهد تراكمي جماعي، لا ملكية فردية حصرية، وأن المثقف الحقيقي ليس هو من يمتلك الإجابات الجاهزة والحلول السحرية، بل هو من يطرح الأسئلة المحرضة للعقل والتفكير، ويشجع على البحث والابتكار المستمر.
إلا أن مفهوم "المثقف" في العالم العربي قد انزلق ليصبح سلطة رمزية، يضفي عليها البعض هالة من القداسة والتعالي، فيمارس دور القاضي الذي يوزع صكوك الصواب والخطأ، على الرغم من أن معرفته في كثير من الأحيان ليست سوى ترديد لأصداء أفكار الآخرين، دون إضافة نوعية أو إبداع جدير بالذكر.
فما هي الأسباب التي أدت إلى نشوء هذه المعضلة الفكرية؟ وما هي تجلياتها وتأثيراتها المختلفة على الفرد والمجتمع؟
من الثقافة كتجربة حية...
إلى الثقافة كسلطة متصلبة...
إن الثقافة ليست مجرد مجموعة من المعلومات المتراكمة، بل هي عملية تفاعلية مستمرة مع مجريات الحياة، تنمو وتترسخ من خلال التساؤل والنقد والتجربة والاختبار.
لكن بعض المثقفين العرب قاموا بتحويلها إلى "شهادة تقدير" اجتماعية تمنحهم امتياز التعالي والترفع، فأصبحوا يصدرون الأحكام من أبراج عاجية، وكأنهم هم وحدهم حراس الحقيقة المطلقة وصائنوها.
وهذا التعالي لا ينفصل عن إشكالية تاريخية عميقة الجذور، فالمثقف العربي قد ولد وترعرع في بيئة استعمارية غذت لديه الشعور بالنقص والدونية، فحاول جاهداً تعويضها من خلال تبني خطاب دفاعي يعتمد على استنساخ الأفكار الغربية أو التمسك بالتراث دون تمحيص أو تدقيق، مما أدى إلى نشوء حالة من التناقض الصارخ بين الانفتاح الظاهري والانغلاق الفكري الباطني.
الاستيراد الفكري المفرط...
وغياب الإبداع الأصيل...
من المفارقات العجيبة لهذه المعضلة أن المثقف يدعي الأصالة والتميز، بينما ثقافته الحقيقية تختزل في نقل أفكار غريبة عن بيئته وسياقه، أو في اجترار التراث بشكل ببغائي دون نقد أو تحليل.
إنه أشبه بـ"وسيط" بين المعرفة والجمهور، لا يمتلك أي إسهام إبداعي يذكر، حتى في أبسط الابتكارات المادية الملموسة. فثقافته تظل حبيسة الإطار النظري، تقاس بعدد الكتب المترجمة والمقتبسة، لا بتأثيرها الفعلي في مجريات الواقع وتغييراته.
هذا النمط من التفكير ينتج مثقفاً استهلاكياً وسطحياً، يعيد تدوير الخطابات والأفكار السائدة دون أن يقدم رؤية جديدة مبتكرة تعالج المشكلات والتحديات التي تواجه مجتمعه بشكل فعال.
تزداد المعضلة تعقيداً وتشابكاً حين تتداخل العلوم الدينية والدنيوية، فبعض المثقفين يتعاملون مع الدين كمنظومة مغلقة وجامدة، يستخدمونها لإضفاء الشرعية على خطابهم وأفكارهم، بينما يتبنى آخرون نظريات علمانية دون مراعاة للخصوصية الثقافية والمجتمعية. وفي كلتا الحالتين، تختزل الثقافة إلى مجرد أداة للهيمنة الفكرية والسيطرة، حيث يرفع المثقف من شأن نفسه، ويقلل من قيمة أي صوت مخالف تحت شعارات براقة مثل "التقدم" أو "الحفاظ على الهوية"، دون وجود حوار حقيقي بنّاء يمتزج فيه العقل بالقلب، والمنطق بالفطرة السليمة.
إن تأثير هذه العقدة لا يقتصر على المثقف نفسه، بل يمتد ليشكل فجوة واسعة بينه وبين المجتمع الذي يفترض به أن يخدمه ويكون جزءاً لا يتجزأ منه.
فبينما يحتاج الواقع العربي إلى مثقف منخرط بفاعلية في هموم الناس وقضاياهم الحياتية، يساهم في إيجاد حلول لمشكلات التعليم والاقتصاد والفكر، نجد أن الكثيرين منهم منغمسون في سجالات ونقاشات نظرية مجردة لا تلامس الواقع المعيش. هذا التعالي يغذي النظرة الدونية للعامة، ويعمق أزمة الثقة بين الطرفين، فيتحول المثقف إلى كائن غريب ومنعزل في وطنه، بينما يبحث المجتمع عن حلوله ومعالجاته للأزمات خارج صالونات التنظير والتبرير.
من أجل كسر هذه الحلقة المفرغة، يحتاج المثقف العربي إلى مراجعة شاملة لدوره ومسؤولياته، فالثقافة الحقيقية ليست مجرد امتلاك للمعرفة والمعلومات، بل هي انفتاح دائم على التعلم والتطور، ونقد ذاتي مستمر، وإيمان راسخ بأن الحكمة يمكن أن تنبع من أبسط الناس وأكثرهم تواضعاً.
عليه أن يتحول من مجرد "ناقل" للمعرفة إلى "منتج" لها، يبتكر حلولاً للمشكلات ويشارك بفاعلية في بناء الواقع وتطويره نحو الأفضل.
كما أن تطوير النظام التعليمي ليعزز التفكير النقدي والإبداعي بدلاً من الحفظ والتلقين، وخلق مساحات للحوار والتفاعل بين التخصصات الدينية والدنيوية، يمكن أن يسهم بشكل كبير في إنضاج ثقافة أكثر تواضعاً وإنتاجية وفاعلية.
إن الثقافة العربية لن تتحرر من عقدة التعالي والغطرسة إلا بالاعتراف بأنها جهد تراكمي جماعي، لا ملكية فردية حصرية، وأن المثقف الحقيقي ليس هو من يمتلك الإجابات الجاهزة والحلول السحرية، بل هو من يطرح الأسئلة المحرضة للعقل والتفكير، ويشجع على البحث والابتكار المستمر.